مواقف من السيرة النبوية في حب الوطن

مواقف من السيرة النبوية في حب الوطن

بقلم : د / عبد المحسن جمعة الأزهري

إن الله سبحانه وتعالى ركز في النفوس حب الأوطان, وغرس فيها عشق ترابها وهوائها , وكل ما تفتحت عليه عينا الإنسان حين درج على أرضها , وتراه يهيم بوطنه شوقا إذا غاب عنه، وتهفو إليه نفسه , عادّا للأيام والساعات حتى يعود إلى ملاعب صباه , ومستودع ذكرياته , ومهوى فؤاده , فابن الصحراء يحبها برمالها وفجاجها وباديتها , بل حتى وعواصفها , وحرها وبردها , وابن الجبل يحبه بارتفاعه وشموخه ووعورته  وقسوته , ومن عاش بجوار النهر يحبه بصفحته الرقراقة وانسيابه السلسال, وبجفافه ذهاب مائه وخيراته , فكل يحب وطنه على أي وضع يكون , ولا يرضى بوطنه بديلا مهما كان البديل أجمل وأحسن من الوطن , ولله در الشاعر الذى قال مبالغا :

وطني لو شغلت بالخلد عنه         نازعتني إليه في الخلد نفسي

وحين نستعرض السيرة النوية الشريفة نقف على مصداق هذا الكلام .

فها هو رسولنا صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى بالهجرة إلى المدينة المنورة , وهي أرض ذات نخل وزرع , عيونها جارية ،وجداولها ساربة , وزرعها نضير , على الضد من مكة فقد وصفها الخليل إبراهيم عليه السلام بأنها بلد ( غير ذي زرع ) , فلا خضرة فيها ولا شجر , جبالها وعرة , حرارتها مرتفعة , لكنها مع ذلك كانت أحب بلاد الله إلى قلب نبيه صلى الله عليه وسلم , فيها نشأ, وبين جبالها درج , كل شِعب منها له في قلبه ذكرى , وكل فج ّله انطباع بأجمل اللحظات ,  خاطبها قائلا : والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله , وأحب بلاد الله إليّ , ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت .

وهاهم الصحابة رضي الله عنهم حين وصلوا المدينة مهاجرين , كانت تباريح الحنين  إلى مكة تستبد بهم , فكانوا يكابدون شدة الاشتياق إليها ,ويتمنى أن يبيت ولو لليلة واحدة بها , وينظر إلى النجوم في سمائها  , فالنجوم في الوطن لها شكل آخر .يقول سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه  :

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة          بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة          وهل  يبدون لي شامة وطفيل

 حتى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحبب الله إليهم المدينة , وهوائها , وأرضها كحبهم مكة , وطنهم الأول . وحق الأوطان أن تفدى بكل نفيس وكل رخيص ، فاللهم احفظ المسلمين في أوطانهم واحفظها لهم من كل مكروه وسوء ,برحمتك يا أرحم الراحمين .