ترسيخ خير الأنام لأسس التعايش في الإسلام
بقلم : د/ محمود حربي عبد الفتاح الأزهري
لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة أسس الدولة الإسلامية على أسس ثلاث : أحدها: بناء المسجد والثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، والثالث: المعاهدات بين المسلمين وغيرهم ، وقفتُ على هذه الأسس الثلاث وقلت: لماذا ركز النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأسس الثلاث مع أن في الإسلام أسسا غيرها كثيرة ؟ والجواب أن هذه الأسس الثلاث هي أساس للتعايش السلمي وربط للصلة من جوانبها الثلاثة، فالمسجد ليربط العبد بربه ،والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لتربط علاقة المسلم بأخيه المسلم والمعاهدات بين المسلمين وغيرهم لتربط علاقة المسلم بغير المسلم .
كان الأساس الأول هو توثيق الصلة بالله تعالى ، لأن أي مجتمع لا يكون متصلا بالله تعالى ، لا يكتب له النصر ولا النجاح ، وتمثل توثيق الصلة بالله ببناء المسجد النبوي الشريف الذي كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وشارك فيه بنفسه ليوضح أهمية المسجد في أداء الشعائر وتوثيق الصلة بالله .
أما الأساس الثاني: فيتمثل في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم منهم إخوة متحابين تعاونوا وتحابوا بروح الله ، وكان الأنصار عند حسن ظن النبي صلى الله عليه وسلم بهم، لدرجة أن هذه المؤاخاة لم يقف أمرها عند حد المؤاخاة فحسب ، بل أصبحوا بها يتوارثون كما يتوارث الأبناء من أبائهم حتى نزل قول الله تعالى ” وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله “
وكان من ثمرة هذه المؤاخاة ما تميز به الأنصار من إيثار غيرهم على أنفسهم حتى فى الطعام، فعن أبي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، فَقَالَ: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟»، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِ السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ، فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ، قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ»
أما الأساس الثالث: وهي معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين ، فكتب السيرة حافلة ومملوءة بها ، وأعرض لك أيها القارئ الكريم نموذجا لهذه المعاهدات وهي معاهدته صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة ، حيث إن اليهود كانوا يعيشون مع المسلمين فيها فكان من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسن تدبيره أن يبدأ هؤلاء اليهود بالمودة، ويبسط لهم يد الأخوة، ويتفق معهم على التضامن والتعاون حتى تكون المدينة كلها صفًّا واحدًا وقوة واحدة، وحتى لا يطمع في المدينة طامع وينال منها عدو، وقد بين فيها حقوق المسلمين وواجباتهم وحقوق اليهود وواجباتهم، وكان أساس هذه المعاهدة الأخوة في السلم، والدفاع عن المدينة وقت الحرب، والتعاون التام بين الفريقين إذا نزلت شدة بأحدهما أو كليهما.
وقد جاء في هذه المعاهدة: وأن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومن ظلم أو أثِمَ منهم؛ فإنه لا يوتغ -لا يهلك- إلا نفسه وأهل بيته، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأن من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى”.
وقد كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه المعاهدة معاهدات خاصة مع اليهود تتجه إلى هذه الأهداف، وتدور حول تلك الأغراض.
وقد دلت هذه المعاهدات الجلية على سمو تفكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسن سياسته، فهي تقرر حرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرمة المدينة، وتحرم الجرائم، وتحارب الظلم والإثم، ولا شك أن هذه المعاهدات الخالدة كانت ذات أثر كبير في تقوية عزائم المسلمين، وحفظ المدينة من مطامع المشركين المعتدين، ولولا أن اليهود غدروا وخانوا العهد والمواثيق، وبدأوا بالعدوان على المسلمين، لما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون منهم موقف العداء، ولظلت المدينة يغمرها الوئام والصفاء، ولكن اليهود غدروا وخانوا وبدأوا بالعدوان، فرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون على إساءتهم وظلمهم بما جعلهم عبرة أمام القرون والأجيال، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم ظالمين.